فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: ألقاها دهشًا لما دهمه من أمرهم، وعن ابن عباس: أن موسى عليه السلام لما ألقاها تكسرت فرفع أكثرها الذي فيه تفصيل كل شيء وبقي الذي في نسخته الهدى والرحمة وهو الذي أخذ بعد ذلك، وروى أنه رفع ستة أسباعها وبقي سبع قاله جماعة من المفسرين، وقال أبو الفرج بن الجوزيّ لا يصحّ أنه رماها رمي كاسر انتهى، والظاهر أنه ألقاها من يديه لأنهما كانتا مشغولتين بها وأراد إمساك أخيه وجرّه ولا يتأتى ذلك إلا بفراغ يديه لجرّه وفي قوله: {ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح} دليل على أنها لم تتكسر ودليل على أنه لم يرفع منها شيء والظاهر أنه أخذ برأسه أي أمسك رأسه جاره إليه، وقيل: بشعر رأسه، وقيل: بذوائبه ولحيته، وقيل: بلحيته، وقيل: بأذنه، وقيل: لم يأخذ حقيقة وإنما كان ذلك إشارة فخشي هارون أن يتوّهم الناظر إليهما أنه لغضب فلذلك نهاه ورغب إليه والظاهر أن سبب هذا الأخذ هو غضبه على أخيه وكيف عبدوا العجل وهو قد استخلفه فيهم وأمره بالإصلاح وأن لا يتبع سبيل من أفسد وكيف لم يزجرهم ويكفهم عن ذلك ويدلّ على هذا الظاهر قوله: {ولما سكت عن موسى الغضب} وقوله: {لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي}، قال الزمخشري: أي بشعر رأسه يجره إليه بذوائبه وذلك لشدة ما ورده عليه من الأمر الذي استفزّه وذهب بفطنته وظنًّا بأخيه أن فرط في الكفّ، وقيل: ذلك الأخذ والجر كان ليسر إليه أنه نزل عليه الألواح في مناجاته وأراد أن يخفيها عن بني إسرائيل فنهاه هارون لئلا يشتبه سراره على بني إسرائيل بإذلاله وقيل: ضمه ليعلم ما لديه فكره ذلك هارون لئلا يظنوا أهانته وبيّن له أخوه أنهم استضعفوه، وقيل: كان ذلك على سبيل الإكرام لا على سبيل الإهانة كما تفعل العرب من قبض الرجل على لحية أخيه.
{قال ابنَ أمّ إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمِت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين} ناداه نداء استضعاف وترفق وكان شقيقه وهي عادة العرب تتلطف وتتحنن بذكر الأمّ كما قال:
يا ابن أمي ويا شقيق نفسي

وقال آخر:
يا ابن أمي فدتك نفسي ومالي

وأيضًا فكانت أمهما مؤمنة قالوا: وكان أبوه مقطوعًا عن القرابة بالكفر كما قال تعالى لنوح عليه السلام: {إنه ليس من أهلك} وأيضًا لما كان حقها أعظم لمقاساتها الشدائد في حمله وتربيته والشفقة عليه ذكره بحقها، وقرأ الحرميان وأبو عمرو وحفص: {ابن أمّ} بفتح الميم، فقال الكوفيون: أصله يا ابن أماه فحذفت الألف تخفيفًا كما حذفت في يا غلام وأصله يا غلامًا وسقطت هاء السكت لأنه درج فعلى هذا الاسم معرب إذ الألف منقلبة عن ياء المتكلم فهو مضاف إليه ابن، وقال سيبويه: هما اسمان بنيا على الفتح كاسم واحد كخمسة عشر ونحوه فعلى قوله ليس مضافًا إليه ابن والحركة حركة بناء، وقرأ باقي السبعة بكسر الميم فقياس قول الكوفييّن أنه معرب وحذفت ياء المتكلم واجتزىء بالكسرة عنها كما اجتزؤوا بالفتحة عن الألف المنقلبة عن ياء المتكلم، وقال سيبويه هو مبنيّ أضيف إلى ياء المتكلم كما قالوا يا أحد عشر أقبلوا وحذفت الياء واجتزؤوا بالكسرة عنها كما اجتزؤوا في {يا قَوم} ولو كانا باقيين على الإضافة لم يجز حذف الياء لأنّ الاسم ليس بمنادى ولكنه مضاف إليه المنادى فلا يجوز حذف الياء منه، وقرئ بإثبات ياء الإضافة وأجود اللغات الاجتزاء بالكسرة عن ياء الإضافة ثم قلب الياء ألفًا والكسرة قبلها فتحة ثم حذف التاء وفتح الميم ثم إثبات التاء مفتوحة أو ساكنة وهذه اللغات جائزة في ابنة أمي وفي ابن عمي وابنة عمي، وقرئ {يا ابن أمي} بإثبات الياء و{ابن إمّ} بكسر الهمزة والميم ومعمول القول المنادى والجملة بعده المقصود بها تخفيف ما أدرك موسى من الغضب والاستعذار له بأنه لم يقصّر في كفهّم من الوعظ والإنذار وما بلغته طاقته ولكنهم استضعفوه فلم يلتفتوا إلى وعظه بل قاربوا أن يقتلوه ودلّ هذا على أنه بالغ في الإنكار عليهم حتى همّوا بقتله ومعنى {استضعفوني} وجدوني فهي بمعنى إلفاء الشيء بمعنى ما صيغ منه أي اعتقدوني ضعيفًا، وتقدّم ذلك في قوله: {للذين استضعفوا} ولما أبدى له ما كان منهم من الاستضعاف له ومقاربة قتلهم إياه سأله ترك ما يسرهم بفعله فقال: {فلا تشمت بي الأعداء} أي لا تسرّهم بما تفعل بي فأكون ملومًا منهم ومنك، وقال الشاعر:
والموت دون شماتة الأعداء

وقرأ ابن محيصن {تشمت} بفتح التاء وكسر الميم ونصب {الأعداء} ومجاهد كذلك إلا أنه فتح الميم وشمت متعدّية كأشمت وخرّج أبو الفتح قراءة مجاهد على أن تكون لازمة والمعنى فلا تشمت أنت يا ربّ وجاز هذا، كما قال الله يستهزىء بهم ونحو ذلك ثم عاد إلى المراد فأضمر فعلًا نصب به الأعداء كقراءة الجماعة انتهى، وهذا خروج عن الظاهر وتكلّف في الإعراب وقد روي تعدّى شمت لغة فلا يتكلّف أنها لازمة مع نصب الأعداء وأيضًا قوله: {الله يستهزئ بهم} إنما ذلك على سبيل المقابلة لقولهم: {إنما نحن مستهزءون} فقال: {الله يستهزئ بهم} وكقوله: {ويمكرون ويمكر الله} ولا يجوز ذلك ابتداءً من غير مقابلة وعن مجاهد {فلا تشمت} بفتح التاء والميم ورفع {الأعداء}، وعن حميد بن قيس كذلك إلا أنه كسر الميم جعلاه فعلًا لازمًا فارتفع به الأعداء فظاهره أنه نهى الأعداء عن الشماتة به وهو من باب لا أرينك هنا والمراد نهيه أخاه أي لا تحلّ بي مكروهًا فيشمتوا بي وبدأ أوّلًا بسؤال أخيه أن لا يشمت به الأعداء لأنّ ما يوجب الشماتة هو فعل مكروه ظاهر لهم فيشمتوا به فبدأ بالأوكد ثم سأله أن لا يجعله ولا يعتقده واحدًا من الظالمين إذ جعله معهم واعتقاده من جملتهم هو فعل قلبي وليس ظاهرًا لبني إسرائيل أو يكون المعنى {ولا تجعلني} في موجدتك عليّ قرينًا لهم مصاحبًا لهم. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ}.
شروعٌ في بيان ما جرى من موسى عليه السلام بعد رجوعِه من الميقات إثرَ بيانِ ما وقع من قومه بعده، وقولُه تعالى: {غضبان أَسِفًا} حالان من موسى عليه السلام أو الثاني من المستكنّ في غضبانَ والآسِفُ الشديدُ الغضبِ وقيل: الحزين {قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى} أي بئسما فعلتم من بعد غَيْبتي حيث عبدتم العجلَ بعد ما رأيتم فعلي من توحيد الله تعالى ونفيِ الشركاءِ عنه وإخلاصِ العبادةِ له أو من حملكم على ذلك وكفِّكم عما طمَحَت نحوه أبصارُكم حيث قلتم: اجعلْ لنا إلها كما لهم آلهةٌ ومن حق الخلفاءِ أن يسيروا بسيرة المستخلِفِ فالخطابُ للعبَدَة من السامريِّ وأشياعِه، أو بئسما قمتم مَقامي ولم ترعوا عهدي حيث لم تكفوا العبَدَةَ عما فعلوا، فالخطابُ لهارونَ ومن معه من المؤمنين كما ينبئ عنه قوله تعالى: {قَالَ يَا هارون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ أَن لا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى} ويجوز أن يكون الخطابُ للكل على أن المرادَ بالخليفة ما يعم الأمرين المذكورين، وما نكرةٌ موصوفةٌ مفسِّرةٌ لفاعل بئس المستكنِّ فيه والمخصوصُ بالذم محذوفٌ تقديره بئس خلافةً خلفتمونيها من بعدي خلافتُكم {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ} أي تركتموه غيرَ تام على تضمين عجِلَ معنى سبَق، يقال: عجِل عن الأمر إذا تركه غيرَ تام أو أعجِلتم وعدَ ربِّكم الذي وعدنيه من الأربعين وقدّرتم موتي وغيّرتم بعدي كما غيرت الأممُ بعد أنبيائِهم {وَأَلْقَى الالواح} طرحها من شدة الغضبِ وفرطِ الضجر حميةً للدين. روي أن التوراةَ كانت سبعةَ أسباعٍ في سبعة ألواح فلما ألقاها انكسرت فرفعت ستةُ أسباعِها التي كان فيها تفصيلُ كلِّ شيءٍ وبقي سُبعٌ كان فيه المواعظُ والأحكامُ {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} بشعر رأسِه عليهما السلام {يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} حال من {أخذ}، فعلَه عليه السلام توهما أنه قصّر في كفهم، وهارونُ كان أكبرَ منه عليهما السلام بثلاث سنينَ وكان حَمولًا ولذلك كان أحبَّ إلى بني إسرائيل.
{قَالَ} أي هارون لموسى عليهما السلام {ابن أُمَّ} بحذف حرف النداءِ، وتخصيصُ الأم بالذكر مع كونهما شقيقين لما أن حقّ الأمِّ أعظمُ وأحقُّ بالمراعاة مع أنها كانت مؤمنةً وقد قاست فيه المخاوفَ والشدائد وقرى بكسر الميم بإسقاط الياءِ تخفيفًا كالمنادى لمضافِ إلى الياء وقراءةُ الفتح لزيادة التخفيف أو لتشبيهه بخمسةَ عشرَ {إِنَّ القوم استضعفونى وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى} إزاحةً لتوهم التقصيرِ في حقه، والمعنى بذلتُ جُهدي في كفهم حتى قهروني واستضعفوني وقاربوا قتلي {فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الاعداء} أي فلا تفعلْ بي ما يكون سببًا لشماتتهم بي {وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ القوم الظالمين} أي معدودًا في عدادهم بالمؤاخذة أو النسبة إلى التقصير، وهذا يؤيد كونَ الخطابِ للكل، أو لا تعتقد أني واحدٌ من الظالمين مع براءتي منهم ومن ظلمهم. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ}.
مما حدث منهم {أَسَفًا} أي شديد الغضب كما قال أبو الدرداء. ومحمد القرظي. وعطاء. والزجاج.
أو حزينًا على ما روي عن ابن عباس والحسن وقتادة رضي الله تعالى عنهم، وقال أبو مسلم: الغضب والأسف بمعنى والتكرير للتأكيد.
وقال الواحدي: هما متقاربان فإذا جاءك ما تكره ممن هو دونك غضبت وإذا جاءك ممن هو فوقك حزنت، فعلى هذا كان موسى عليه السلام غضبان على قومه باتخاذهم العجل حزينًا لأن الله تعالى فتنهم، وقد أخبره سبحانه بذلك قبل رجوعه، ونصب الوصفين على أنهما حالان مترادفان أو متداخلان بأن يكون الثاني حالًا من الضمير المستتر في الأول، وجوز أبو البقاء أن يكون بدلًا من الحال الأولى وهو بدل كل لا بعض كما توهم.
{قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى} خطاب إما لعبدة العجل وإما لهارون عليه السلام ومن معه من المؤمنين أي بئسما ما فعلتم بعد غيبتي حيث عبدتم العجل بعدما رأيتم مني من توحيد الله تعالى ونفى الشركاء عنه سبحانه وإخلاص العبادة له جل جلاله، أو بئسما قمتم مقامي حيث لم تراعوا عهدي ولم تكفوا العبدة عما فعلوا بعد ما رأيتم مني من حملهم على التوحيد وكفهم عما طمحت نحوه أبصارهم من عبادة البقر حين قالوا: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} [الأعراف: 138].
وجوز أن يكون على الخطاب للفريقين على أن المراد بالخلافة الخلافة فيما يعم الأمرين اللذين أشير إليهما ولا تكرار في ذكر {مِن بَعْدِى} بعد {خَلَفْتُمُونِى} لأن المراد من بعد ولايتي وقيامي بما كنت أقوم إذ بعديته على الحقيقة إنما تكون على ما قيل بعد فراقه الدنيا، وقيل: إن {مِن بَعْدِى} تأكيد من باب رأيته بعيني وفائدته تصوير نيابة المستخلف ومزاولة سيرته كما أن هنالك تصوير الرؤية وما يتصل بها، و{مَا} نكرة موصوفة مفسرة لفاعل بئس المستكن فيه والمخصوص بالذم محذوف أي بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم، والذم فيما إذا كان الخطاب لهارون عليه السلام ومن معه من المؤمنين ليس للخلافة نفسها بل لعدم الجري على مقتضاها، وأما إذا كان للسامري وأشياعه فالأمر ظاهر {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ} أي أعجلتم عما أمركم به ربكم وهو انتظار موسى عليه السلام حال كونهم حافظين لعهده وما وصاهم به فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولم أرجع إليكم فحدثتم أنفسكم بموتي فغيرتم.
روي أن السامري قال لهم حين أخرج لهم العجل، وقال: إن هذا إلهكم وإله موسى إن موسى لن يرجع وإنه قد مات.
وروي أنهم عدوا عشرين يومًا بلياليها فجعلوها أربعين ثم أحدثوا ما أحدثوا.
والمعروف تعدي {عَجَلٍ} بعن لا بنفسه فيقال: عجل عن الأمر إذا تركه غير تام ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غيره وضمنوه هنا معنى السبق وهو كناية عن الترك فتعدى تعديته ولم يضمن ابتداء معنى الترك لخفاء المناسبة بينهما وعدم حسنها.
وذهب يعقوب إلى أن السبق معنى حقيقي له من غير تضمين، والأمر واحد الأوامر.
وعن الحسن أن المعنى أعجلتم وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين فالأمر عليه واحد الأمور والمراد بهذه الأربعين على ما ذكره الطيبي غير الأربعين التي أشار الله تعالى إليها بقوله سبحانه: {فَتَمَّ ميقات رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] وسيأتي تتمة الكلام في ذلك قريبًا إن شاء الله تعالى.